عماد الدين الفلسطيني
طاقم الإدارة
1
تنقلُ ليلى سليماني قارئ روايتها “بلدُ الآخرين” (Le pays des autres) إلى مغرب منتصف القرن العشرين، حيث تتشابك خيوط الهوية والتنوع الثقافي مع واقع متوتر فرضتْه هيمنة السّلطة الاستعمارية على البلاد. من خلال سردها لقصة أمين وماتيلد، تبني سليماني رواية تتناول تناقضات العيش بين ثقافتين متباينتين. يعود أمين بعد الحرب العالمية الثانية إلى وطنه رفقة زوجته الألزاسية ماتيلد، التي تجد نفسها في مواجهة حياة غريبة كليًا عن عالمها الأوروبي. بين صعوبة العيش في مزرعة قرب مكناس والشعور العميق بالعزلة، تخوض ماتيلد صراعًا داخليًا مع نفسها، حيث يتداخل حبها لأمين مع شعورها بالغربة في بيئتها الجديدة.
منذ الصفحات الأولى للرواية، تتكشف أمام القارئ تعقيدات الهوية التي تواجهها ماتيلد في علاقتها بأمين، حيث يشتد شعورها بالاغتراب، في رحلة للبحث عن معنى الانتماء مكانًا وثقافةً. بخطوات مترددة، تسعى ماتيلد إلى بناء جسور تواصل مع عالم يبدو غريبًا عنها، أملًا في العثور على أفق يهب هُويَّتها المتأرجحة بعضَ الاستقرار.
وهكذا، تجد ماتيلد نفسها محاطة بعالم تهيمن عليه قيم ثقافية صارمة تحد من خياراتها الفردية، مما يعمق شعورها بالتمزق بين رغبتها في التحرر وحاجتها الملحة للتكيف مع واقع يفرض عليها قيودًا قاسية. يصبح وجودها محملًا بالتناقضات المؤلمة؛ فهي تقع بين حبها لأمين والتحديات التي تفرضها الحياة في المغرب، حيث تواجه واقعًا ثقافيًا يفاقم شعورها بالاغتراب. ومن هنا، تخوض صراعًا مستمرًا مع محيط يضيق حولها كلما حاولت التأقلم معه أو قبول شروطه.
يعبر أمين بدوره عن صراع داخلي، إذ يتوق إلى تجديد أسلوب حياته بالانفتاح على تجليات الحداثة في الفكر والسلوك، لكنه يبقى مكبلًا بأواصر تقاليد مجتمعه العريقة. وهكذا يتأرجح بين رؤيته الطموحة للمستقبل وواجبه في ضرورة الحفاظ على إرثه الثقافي، مما يضعه في مواجهة مأزق وجودي يمزج بين الانتماء والتجدد. يعيش أمين حالة من التوتر بين رغبته العميقة في تحقيق ذاته وولائه الراسخ لأعراف بيئته، محاولًا في الوقت ذاته احترام تطلعات ماتيلد نحو حياة أكثر انفتاحًا. ورغم محبته لها، ينشأ بينهما حاجز غير مرئي يفصل بين طموحاتها ورؤيته للحياة، وكأن هذا الحاجز يُجسّد الفجوة الصامتة التي تعكس التباين العميق بين عالميهما.
تمثل عائشة، ابنة أمين وماتيلد، رمزًا لمستقبل موزع بين عالمين متناقضين؛ فهي تحمل عبء الانتماء المزدوج، وتجد نفسها محاصرة بمتاهة معقدة من التناقضات بين الماضي والحاضر. يدفعها هذا الصراع إلى التمسك بهوية غير مستقرة في عالم يتأرجح باستمرار بين ضفتين متباعدتين. في هذا السياق، تبقى شخصية عائشة مكبلة بشعور بالعجز، فلا تجد أمامها خيارًا سوى الاستسلام وقبول الأمر الواقع.
2
لا تقتصر رواية “بلد الآخرين” على تصوير العلاقة بين أمين وماتيلد، بل تمتد لتشمل السياق السياسي الذي ميز مرحلة الحماية بالمغرب، من خلال استحضار تاريخ الحركة الوطنية وما شهدته البلاد من اضطرابات اجتماعية وسياسية. وبفضل توظيف هذه الخلفية التاريخية، تتحول كل شخصية في الرواية إلى رمز لصراع أمة بأكملها في سعيها نحو التحرر واستعادة هويتها، وسط تحديات اجتماعية وسياسية معقدة.
تصوغ ليلى سليماني عوالم شخصياتها كاشفة للقارئ مشاعرها المتناقضة. وفي فضاء روائي تتقاطع فيه خيوط الأمل والألم، يتحرك السرد بانسيابية بين التكثيف والبساطة، مما يضفي على النص عمقًا إنسانيًا مفعمًا بالواقعية.
تجسد شخصية ماتيلد، التي تحمل في أعماقها حلمًا مشرقًا بحياة أكثر حرية وأصالة، صراعًا مع واقع ضيق يحدّ من طموحاتها. في العديد من مقاطع الرواية، تبرز ملامح انكسارها حين تواجه تحديات قاسية في محيط قروي قاسٍ. فهي تختلف عن نساء القرية في تفكيرها وأحلامها، لتجد نفسها عالقة بين رغبتها في الانفتاح وحرية التعبير، وبين مجتمع يُمعن في النظر إليها بعين الريبة والحذر.
في المقابل، يجد أمين نفسه، كما أشرتُ سابقًا، مضطرًا لمواجهة التوتر المستمر تجاه ماتيلد، مما يجعل مشاعره تتأرجح بين الانجذاب والقلق. أما مع عائشة، فتلمح سليماني إلى إمكانية وجود مسار ثالث يسعى للمصالحة بين ثقافة أمين وثقافة ماتيلد، رغم أن هذا المسار يبقى مليئًا بالتحديات والصعوبات، بدءًا من التوترات العائلية وصولًا إلى الاختلافات العميقة التي صاحبتها منذ ولادتها.
3
تُبدع ليلى سليماني في رواية “بلد الآخرين” عالمًا غنيًا بالإيحاءات التي تكشف عن التوتر المستمر بين الطموحات الفردية وقيود الواقع الثقافي للشخصيات. فالعلاقة بين ماتيلد وأمين تتجاوز كونها قصة حب استثنائية؛ إذ في سعيهما المشترك نحو حياة أكثر تحررًا، يجد كل منهما نفسه عالقًا بين رغباته الشخصية وقيود التقاليد أو التكيف مع الحياة الجديدة. وبذلك، يشعر كل واحد منهما بالانفصال والانكسار، حيث تحاصرهما غربة عميقة تضغط على كينونتهما.
يقف أمين في مفترق طريق بين ثقافتين، إحداهما تدفعه نحو التجديد والتحول، والأخرى تشده إلى التمسك بولاء لا يلين. من خلال هذا الصراع الداخلي، تعيد سليماني إحياء لحظة تاريخية تتجاوز الأبعاد الزمنية والمكانية، حيث يتحول “التوتر الثقافي” إلى تجربة غنية بأبعاد فكرية تثير لدى القارئ تساؤلات عميقة حول جوهر الهوية ومعنى الانتماء.
بهذا المعنى، تعيد رواية “بلد الآخرين” لليلى سليماني طرح نفس الأسئلة التي تناولتها نصوص روائية سابقة مؤسسة للأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية منذ أواسط الخمسينيات من القرن الماضي وصعودًا: أسئلة الهوية والتاريخ الاجتماعي والسياسي وتشابك المصير بين الانشداد للمكان والتحرر من التقاليد والموروثات الثقافية. كما تُلقي الرواية الضوء على تشابك المصائر الفردية مع أحداث التاريخ الاجتماعي والسياسي المضطرب في المغرب تحت وطأة الحماية.
4
على الرغم من جماليات السرد وإتقان الوصف في رواية “بلد الآخرين”، يظل تناول ليلى سليماني لقضايا الهوية والتمزق الثقافي منحصِرًا في إطار مألوف سبق للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية أن استوفاه بعمق. فقد تناول كتّاب آخرون، بأساليب ووجهات نظر مغايرة، إشكالات الهوية والانتماء وصراع الفرد بين ثقافتين، وما يخلفه الاستعمار من أثر على النسيج الاجتماعي. بهذا المعنى، تظل رواية “بلد الآخرين” أسيرة لرؤية تقليدية وصور نمطية، دون أن تتمكن من تجاوز ما طرحه الأدب المغربي سابقًا حول هذه الموضوعات. من هنا، تبدو الرواية امتدادًا لخطاب أدبي أصبح تقليديًا، إذْ أخفقت في تقديم بُعْد جديد أو استكشاف آفاق مُبتكرة في معالجة الأسئلة الوجودية المتعلقة بالهوية والمصير المشترك.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
The post رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية appeared first on Hespress - هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
متابعة القراءة...